قبل عامين أقدم شاب تونسي يدعى محمد البوعزيزي، على إحراق ذاته أمام مبنى
الولاية (المحافظة)، بمدينة سيدي بوزيد الفقيرة، بعدما أغلقت كل أبواب المسئولين المحليين
في وجه شكايته التي تقدم بها ضد من صادروا عربته و مصدر رزقه الوحيد، و ضد الشرطية
التي صفعته أمام الملأ، و هي تخاطبه ب "إرحل"، بكل ما تحمله هذه اللفظة من
معاني التجبر و "الحكرة"..
ليتحول هذا الشاب البوزيدي في
لحظة خاطفة، إلى الشرارة التي ستشعل فتيل الثورات في العديد من الدول بدءا من تونس،
و تجعل الملايين من الغاضبين يخرجون إلى الشوارع و الميادين العامة لتحقيق الحرية و
كرامة العيش، بعد صمت و خوف داما عقودا من الزمن، تحت حكم أنظمة شمولية استبدادية،
حكمت بالنار و الحديد..
و اليوم، و الشعب التونسي و معه الشعوب العربية يخلدون الذكرى المجيدة
الثانية، لوفاة مفجر الثورات العربية، و أيقونة الحرية..
لابد أن أول ما قد يخطر ببال المرء، سؤال ذو بعد وجودي!.. : " ماذا حققت هذه الثورات و الانتفاضات في
بلدان الربيع العربي؟!.."
أجل، لقد فقدت الشعوب العربية شابا تونسيا بسيطا و مكافحا!.. لكنها في
المقابل ربحت رمز ثورة كان و مازال عنوانها الأسمى "الحرية و الكرامة"، و
انتصرت على قيود الهزيمة الوجدانية التي عاشت داخل نفوسها، و حطمت جدار الخوف. و أصبح
لحناجرها صوت.. و لصوتها صدى.. و لوجودها أكثر من معنى..
أجل، لم تتحقق أحلام و آمال الثائرين، لكن المهم، أنهم صنعوا ثورتهم.
حتى و إن كانت ثوراتنا العربية سرقت، أو على الأقل، بهذه العبارات فسرت.. إلا أن التاريخ
يؤكد من خلال شهاداته أن الثورات لا يمكن سرقتها مهما كانت براعة السارق، و إن استطاع
أن يسرق منها بريقها..
فمادامت الشعوب قد تعلمت كيف تثور، فإنها تبقى قادرة على استرجاع بريق ثوراتها..
فحتى الثورة الفرنسية التي يرجع لها الفضل في وضع أسس الديمقراطية. و
التي اندلعت في 1789، و رغم ما حققته من مكتسبات في بدايتها، لعل أهمها إصدار قانون
حقوق الإنسان و المواطن، الذي كرس نظام المساواة، و ألغى نظام الامتيازات الإقطاعي
و المحاكم الفيودالية، إلا أنها (الثورة)، واجهت منعطفا خطيرا، كاد أن يحرفها عن مسارها،
بعد بروز توجه ديكتاتوري قاده "ماكسيميليان روبيسبير" عضو "لجنة السلامة
العامة" (الحكومة التنفيذية)، و الذي تسبب في مقتل ما بين 16000 و 40000 مواطن
فرنسي، في فترة وجيزة امتدت خلال سنتي 1793 و 1794، باسم "قانون المشتبه فيهم"،
الذي تم وضعه بهدف تصفية الخصوم و حماية مكتسبات الثورة، لكن هذا لم يمنع من إعادة
تصحيح أخطاء الثورة، بدستور جديد سنة 1795، تأسست بموجبه حكومة الإدارة.
و رغم كل المنعرجات و المنعطفات و الانتكاسات التي مرت بها، استطاعت الثورة
الفرنسية أن تعيد إحياء صيرورتها مرارا حتى حققت أهدافها..
كما يقال: الثورات، هي كيانات فوضوية، لا يمكن التحكم بها. إلا أن غياب
النظرية و الإستراتيجية و التأطير، جعل ثورات الربيع العربي بدون قيادة، أو بدون رأس،
أو برؤوس كثيرة..! و أن هذا الغياب كان سببا في ضعف تماسك الثوار، و حال دون وضع الرؤى
الصائبة نحو تأسيس حزب الثورة أو الجبهة الثورية التي تشمل جميع مكونات الثورة و الأطياف
الشعبية المشاركة فيها، و في مقدمتهم شباب الحراك، بغاية توجيه الثورة نحو أهدافها،
و تمنيعها و تحصينها من ثورات الفلول المضادة، و الأطماع الخارجية و الداخلية، و حماية
مكتسباتها من أي محاولة سطو، إلى أن يتم تثبيت الأرضية الأساسية للديمقراطية، انطلاقا
من الدستور الديمقراطي الذي يعبر عن جميع مكونات الشعب، ثم إجراء الانتخابات في جو
نزيه..
و لكن، مادامت الثورة أصبحت أمرا واقعا، و رغم الغياب الاختياري للمثقفين
العرب و المترفين فكريا، و وقوفهم في شرفات المتفرجين، لأسباب أكاديمية أو فكرية. بين
رافض لهذه الثورات و بين معتبر أنها ثورات جاءت خارج السياق الفلسفي للثورات، و أنها
ليست نتاجا فكريا..و أنها لا تغدوا أن تكون مجرد نشاط فيسبوكي، بعيد كل البعد عن فلسفة
ماركس و إنجلز، و عن فكر فلاسفة عصر التنوير..
هذا الموضوع نشر أيضا على :
anbae.com
lakome.com
0 التعليقات