نظرة نحو الأفق الرسمي في المغرب


 نبيل بكاني
يبدو الأفق العام للمغرب الرسمي ضبابيا أكثر من أي وقت مضى، إن لم نقل غامضا و مفتوحا على جميع الاحتمالات. فعلى المستوى السياسي ، و فيما يخص النخب السياسية الفاعلة داخل اللعبة السياسية الرسمية المؤطرة بالمؤسستين ، التشريعية و التنفيذية ، فإن هذه الفئة من الساسة التي حرص النظام على تهذيبها إلى حد صارت معه كأجساد “كاميكازية “، تقدم نفسها حطبا متجددا لدينامو النظام البيروقراطي ، لأجل استمراريته . و هي بذلك ، تعد منتهية ، فور قبولها لعب أدوار أدوات روتينية داخل المنظومة البيروقراطية القائمة على أساس واحد ، و هو التحكم في القواعد الرئيسية للعبة ، و توجيهها من طرف النظام السياسي الإداري القائم ، الذي اختُزل تاريخيا في “القصر” –أو مربع الحكم المشكل من الملك و المحيط الاستشاري الخاص – عبر آليات القرار السياسي و السيادي المتحكم فيها بالوراثة ، و التي احتفظ بها ، بل جددها من خلال دستور ممنوح سنة 2011 ، و الذي لم يخرج بدوره عن التوجه النمطي الذي صبغ العقلية التقليدية للقصر. ففيما يخص هذه النخبة من الفاعلين السياسيين “الرسميين” –على اعتبار وجود خندقين سياسيين في المغرب ، واحد يعمل في محيط النظام ، و الآخر خارج كل ما هو رسمي – قد باتت مستهلكة ، بدون منازع ، غير قادرة على التغيير من داخل المنظومة الإدارية البيروقراطية القائمة على الأركان الخمس لفلسفة النظام “الاستبداد ، التحكم ، الاقصاء ، الاحتكار و التوجيه “.
و من خلال نظرة تاريخية لبعض المحطات الحاسمة في المسار السياسي الحديث (يُقصد) تجربة التوافق السياسي التي عُرفت ب”حكومة التناوب” (الائتلافية)، منتصف التسعينات ، بزعامة الاتحاد الاشتراكي. سنلاحظ كيف تنتهي الحكومات في المغرب ، و كيف تؤول مكوناتها السياسية حتى تلك التي كانت ممانعة ، إلى حافة الانقسام و التمزق الداخلي ، و الترهل الشعبي بعد أن تفقد امتدادها الجماهيري ، و تتحول كوادرها القيادية الى أحد أهم الشركاء البيروقراطيين داخل الهرم السلطوي الفاسد. هكذا يتغير دورها السياسي النبيل الذي بنت عليه مشروعها الانتخابي ، ليتحول الى مجرد واحد من المناصب الإدارية التقنية ، لا يزيد عما تؤديه أداة بيروقراطية/ ميكانيكية من تنفيذ للتوجيهات الفوقية ، و إعادة إنتاج الخطاب الرسمي القائم على التحكم و التوجيه.
أيضا ، فتجربة العدالة و التنمية هي الأخرى مثال صارخ لما يمكن أن تتعرض له أي تجربة حزبية من تدجين و ترويض و تقزيم داخل الصيرورة البيروقراطية في هرم السلطة. فرغم الفارق بين تجربة الاتحاد الاشتراكي و تجربة العدالة و التنمية، إلا أن التجربة التي دخلها حزب العدالة و التنمية ، خلال مرحلة دستور 2011 –ولا نقول مرحلة الحراك الشعبي ، لأن المبادرة “الإصلاحية” الرسمية تأتت كتدخل موازي ضد العملية الاحتجاجية المطالبة بالتغيير (التغيير و ليس الاصلاح)- كانت بعيدة ، غير متكافئة مع المطالب المدنية للحركة الاحتجاجية. فتجربة هذا الحزب الاسلامي جعلت قراره داخل الحكومة مرتبطا بالمناخ السياسي الذي ينتجه النظام السياسي البيروقراطي. و إن كانت تجربة الاتحاديين خلال التسعينات قد مثلث مجالا حيويا ، أعاد من خلاله النظام صياغة نفسه للعالم بما تتطلبه الصورة الحداثية أمام المنظومتين السياسية و الحقوقية الدوليتين ، خاصة في أوربا الغربية –الشريك الأول- و هي الفترة التي شهدت صحوة جديدة في أوربا بعد سقوط آخر الديكتاتوريات بدءا من نظام فرانكو و انهيار جدار برلين و تفتت الاتحاد السوفييتي.. فقد عرف النظام كيف يوقع بالعدالة و التنمية ، مستغلا لهفته على الوصول الى السلطة ، و هو ما ثم له من خلال انتخابات 2012، التي مثلت الفرصة التاريخية لهذا الحزب، بعد نجاح عبد الإله بن كيران في تسويق نفسه و معه حزبه، كآخر رعاة السياسات المولوية، و آخر ما تبقى من السلالة السياسية، بعد أن لجم حراك الشارع حزب “الأصالة و المعاصرة” الذي تشكل تحت رعاية الملك، ليكون حزب الدولة؛ ممثلا فترة النضج البيروقراطي كآخر مرحلة قبل الاعلان الرسمي على بداية مرحلة الديكتاتورية الحديثة. لقد استطاع الحراك أن يوقف هذا العبث، و ينهي مشروع المخزن في مهده. لكن المخزن استطاع أن يستفيد من خدمة العدالة و التنمية باعتباره كيانا سياسيا براغماتيا قادرا على التأقلم مع الفلسفة الرسمية. و ان كانت هذه الاستفادة مرحلية.
من الصعب الحكم على شعبية العدالة و التنمية في الظروف الراهنة، لكن، و رغم التحولات النوعية التي عرفتها فترة عمل الحكومة الحالية، فيما يخص جودة بعض التشريعات الى جانب حزمة من الاصلاحات و لو بشكل نسبي، و التي همت مجالات حساسة، كمنظومة العدالة و مدونة الصحافة، و فيما يخص بعض الجوانب جد المحدودة من الفساد المالي.. الا أنها اصطدمت بواقع البيروقراطية التي حافظ عليها المخزن من خلال نفس آليات التحكم التقليدية. فعلى امتداد فترة طويلة من افساد المناخ السياسي و تدجين الأحزاب و تقزيم عملها و التلاعب بالارادة الشعبية من خلال عمليات التزوير الكبرى التي حولت اللحظة الاستحقاقية الى مسرحية فنتازية المشاهد، الغرض منها اضفاء مشروعية مزيفة لنخب سياسية مدجنة، فاسدة و متواطئة، و أحزاب ادارية بيروقراطية تم تفريخها لهذا الغرض. استطاعت الدولة التيوقراطية، من خلال آليتها البيروقراطية (وزارة الداخلية) فرض سياسات التحكم و الهيمنة على العمل السياسي و افساد الحياة السياسية عامة.
يبقى العائق الأكبر أمام أي تغيير ديمقراطي في المغرب، هو البيروقراطية التي تحولت الى منظومة هرمية متكاملة خلال زمن من احتكار سلطة القرار و اعفاء الشعب من ممارسة سيادته؛ و ان هذه المنظومة البيروقراطية تمثل مرادفا “للمخزن الحديث” في مختلف تجلياته، السياسية و الادارية و الاقتصادية. ففي المجال الاقتصادي ، و لاحتكار الثروات و الانتاج ، تشكلت طبقة من السياسيين الفاسدين الذين تحولوا الى أصحاب رأس مال ، إلى جانب نخبة رجال الأعمال التقليدية ، تداخلت مصالحها مع المتحكمين في المنظومة البيروقراطية داخل الإدارة، أو كبار رجال المخزن ، ليتحول هؤلاء بدورهم الى شركاء اقتصاديين ، ضمن كيانات اقتصادية و تصنيعية كبرى استفادت من الريع الاقتصادي و الامتيازات السياسية و الادارية التي مكنتها من العمل وفق أعرافها الخاصة ، خارج أي ضوابط تنافسية مشروعة.
قبل مجيء هذا العام، كانت المجموعة الاقتصادية الملكية (أونا)، قد تخلت عن سيطرتها على عدد من الوحدات الانتاجية الكبرى التي تهم الصناعات الغذائية بعد أكثر من قرن من احتكارها للسوق الوطنية، بفعل قوة السلطة السياسية و الادارية للقصر، لتُحول عائدات بيع قطبها الغذائي الى استثمارات في واحد من أهم القطاعات الانتاجية ريادة و هو قطاع الطاقة الشمسية، ضمن مشروع “نور” الحكومي في ورزازات، الذي يعد الأضخم في العالم. لقد سبق و رُفعت شعارات و لافتات عريضة خلال موجات الاحتجاجات مخيرة الملك بين السلطة و التجارة، في اطار بعض المطالب المنادية باقامة ملكية فخرية، أي بالغاء دورها كفاعل سياسي؛ و ذلك لتعارض منصب الملك مع الجمع بين سلطة المال و سلطة القرار السياسي. فكلما اقتربت مؤسسة اقتصادية من مربع استحواذ المجموعة الاقتصادية الملكية، إلا و تم اللجوء الى سلطة القرار السياسي و النفوذ المخزني ، لضرب حقوق المنافسين باستخدام مختلف الأسلحة الادارية المتوفرة.
و نفس الشيء فيما يخص الادارة العمومية التي وجدت نفسها رهينة ثقافة بائسة من البيروقراطية المعقدة ، ترسخت بفعل ممارسات خارج المشروعية و خارج نطاق الاحتكام الى القانون، تشابكت فيها المصالح، و تشعبت فيها العلاقات. أدى استغلال النفوذ و غياب المحاسبة و المساءلة ، في ظل نظام سياسي سلطوي ، يحتكم الى احتكار السلطة و تحجيم دور الديمقراطية ، أدى الى بروز ثقافة ادارية جديدة ، بعد الاستقلال ، تستمد مفرداتها و مقوماتها من كل ما هو خارج القانون ، بفعل استبداد مبدأ المحسوبية و الزبونية ، و التسلق الوظيفي بعيدا عن التنافسية المشروعة. كانت النتيجة؛ انتشار عمليات فساد اداري و مالي منظمة، في شكل رشاوى كبيرة و اختلاسات مهمة في الأغلب تتم وفق تخطيط جماعي، في تحقير صارخ للمساطر القانونية التنظيمية. لتتحول شبكات العلاقات و المصالح العمودية، الى ما يشبه جهازا اداريا غير رسمي ، موازي للادارة العمومية في كل امتداداتها الجغرافية، مركزيا و جهويا، كأخطبوط يتحرك في الخفاء و يعمل وفق ضوابطه الخاصة؛ كما لو أنه دولة داخل الدولة، أو كما يمكن اصطلاحه بالدولة العميقة، المنتجة للفساد و البيرقراطية، و المتحكمة في تنفيذ القوانين، و في صدور الأحكام القضائية. أرتئي بشكل شخصي ، وفقا لمرجعياتي ، تسمية هذا الجهاز، بالمخزن الاداري. لقد ضيعت هذه المنظومة البيروقراطية ، عقودا في اصلاحات هامشية لم تفلح في اقتلاع الفساد من عقر هذه الدولة، أو في الحد من الاستبداد و التحكم، لسبب بسيط، هو أنها هي المنتج الأول لكل مظاهر الاختلال السياسي و الاداري، و لا يمكن لهذا البلد التطور اذا لم تعمل كل مكونات المجتمع المدني، السياسية و الحقوقية و غيرها، مجتمعة في صياغة تعاقد يؤسس لنظام اجتماعي ديموقراطي حديث من خلال دستور شعبي يقطع مع عهد الدساتير الممنوحة.


ط§ظ„طھطµظ†ظٹظپط§طھ :

0 التعليقات